الأربعاء، 22 أكتوبر 2014

الحاكم

الحاكم
وهو المخاطب ، فإن الحكم خطاب وكلام فاعله كل متكلم ، فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر . أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر ، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه لا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر . فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته . 
و في أدلة الأحكام وهي أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي . و الأصل الأول من أصول الأدلة : كتاب الله تعالى واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد ، وهو قول الله تعالى ، إذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم ، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده . والإجماع يدل على السنة ، والسنة على حكم الله تعالى . وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع ، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه . إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول عليه السلام ; لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط ، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله . وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى ، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق .
و لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحي بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا، واشتهر من أصولهم لا حكم إلا لله، وهذا مصداق قوله سبحانه: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام: 57].
وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه، بحيث أن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟
فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله.
ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة:
مذهب الأشاعرة:
أتباع أبي الحسن الأشعري: وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بيّنا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فيكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله، ومطلوب لله فعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو عند الله، ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب: أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته أو طلب فعله، والقبح هو ما دل الشارع على أنه قبيح يطلبه تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحا، فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر.
وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول وما شرعه الله، ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه. فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول ولا شرعه فه غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابا ولا عقابا. وأهل الفترة- وهم من عاشوا من بعد موت رسول وقبل مبعث رسول- غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد هذا المذهب قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
 مذهب المعتزلة:
أتباع واصل بن عطاء: وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه، لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وله آثار تجعله ضارا أو نافعا، فيستطيع العقل بناء على صفات الفعل، وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول بمن نفعها أو ضررها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب: أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من ضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ما تدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح. وهذا المذهب يتفق وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل.
وعلى هذا المذهب؛ فمن لم تبلغهم دعوة الرسل ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا، ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشرك على النعمة والصدق والوفاء والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم.
مذهب الماتريدية:
أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل، وهو الراجح في رأيي؛ وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول، فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله.
فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لابد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه.
ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه، وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان، وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله، ولا يكون قبيحا إلا بطلب الله تركه. لأن هذا ظاهر البطلان، فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر ولو لم يرد بهذا شرع.
وهذا الخلاف لا يترتب عليه اثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق، فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله.













المراجع
كتاب الوجيز في أصول الفقه
كتاب المستصفى / محمد بن محمد الغزالي

www.al-eman.com              





















في الحاكم 

اعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى ، ولا حكم إلا ما حكم به ، ويتفرع عليه أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ، ولنرسم في كل واحد مسألة . 

المسألة الأولى 

مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن الأفعال لا توصف بالحسن والقبح لذواتها ، وأن العقل لا يحسن ولا يقبح ، وإنما إطلاق اسم الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية . 

أولها : إطلاق اسم الحسن على ما وافق الغرض ، والقبيح على ما خالفه . 

وليس ذلك ذاتيا لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض ، بخلاف اتصاف المحل بالسواد والبياض . 

وثانيها : إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ، ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات . وإطلاق اسم القبح على ما أمر الشارع بذم فاعله ، ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح ، وذلك أيضا مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال . 

[ 
ص: 80 ] وثالثها : إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله ، بمعنى نفي الحرج عنه في فعله ، وهو أعم من الاعتبار الأول صوابه الثاني ; لأنه هو الذي خرج من المباح لدخول المباح فيه ، والقبيح في مقابلته ، ولا يخفى أن ذلك أيضا مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون ذاتيا ، وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن بالاعتبار الثاني والثالث ، وقبله بالاعتبار الثالث ، وما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث ، وبعده بالاعتبارات الثلاثة . 

الصحيح أن محل النزاع : الحسن والقبح بمعنى اشتمال الفعل على مصلحة كان بها حسنا أو على مفسدة كان به قبيحا ، ثم نشأ عن ذلك خلاف آخر هل تثبت الأحكام بما في الأفعال من حسن أو قبح ، ولو لم يرد شرع أو يتوقف ذلك على ورود الشرع ، فذهب الجبرية ومن في حكمهم إلى نفي الحسن والقبح بهذا المعنى ، وجعلوهما تابعين لأمر الشرع ونهيه ، لذلك جعلوا العلل في باب القياس أمارات ، وذهب المعتزلة إلى إثباتهما وبناء الحكم عليهما ، ولو لم يرد شرع ، فأثبتوا لزوم الأحكام لها ، فإذا أدرك العقل الحسن في فعل قضى بطلبه ، وإذا أدرك القبح في فعل حكم بمنعه ، ولذلك جعلوا العلل في باب القياس بواعث ودواعي لبناء الحكم ، وذهب جماعة إلى إثبات الحسن والقبح العقليين ، ونفوا التلازم بينهما وبين الأحكام ، وقالوا : لا يثبت حكم إلا بالشرع . وأثبتوا بأدلة الفطرة والعقل والنقل ما ذكر من الحسن والقبح ، وأنها لا تستلزم الحكم بل تنفيه ، حتى يثبته الشرع ، وجعلوا أدلة المعتزلة في إثباتهما ردا على الجبرية في نفيهم لهما ، وجعلوا أدلة الجبرية ردا على المعتزلة في إثبات أحكام الشرع بهما ، فأخذوا الحق من قول الفريقين ، وردوا باطل كل منهما بما مع الآخر من أدلة الحق - ارجع إلى ج 1 من مدارج السالكين لابن القيم وإلى جواب أهل العلم والإيمان لابن تيمية ، ففيهما تفصيل المذاهب وبسط الأدلة وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة البراهمة : جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفا يسمى برهام ، فنسبوا إليه ، وقيل إنهم طائفة عبدت صنما يسمى برهم فنسبت إليه والثنوية طائفة تزعم أن النور والظلمة أزليان قديمان ، فنسبت إلى الاثنين .وغيرهم إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها ، لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران ، أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح الكذب النافع ، أو بالسمع كحسن العبادات ، لكن اختلفوا [ ص: 81 ] فزعمت الأوائل من المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه . 

ومنهم من أوجب ذلك كالجبائية . 

ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ، ونشأ بينهم بسبب هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى الحسن والقبح ، أومأنا إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام . 

وقد احتج أصحابنا بحجج : 

الأولى : أنه لو كان الكذب قبيحا لذاته للزم منه أنه إذا قال : إن بقيت ساعة أخرى كذبت ؛ أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب ، والأول ممتنع لما يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح ، وما لزم منه القبيح فهو قبيح ، فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب . 

الثانية : لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتيا ، فإذا قال القائل : زيد في الدار ، ولم يكن فيها ، فالمقتضي لقبحه : إما نفس ذلك اللفظ ، وإما عدم المخبر عنه ، وإما مجموع الأمرين ، وإما أمر خارج . الأول : يلزمه قبح ذلك الخبر وإن كان صادقا ، والثاني : يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي ، والثالث : يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي ، والكل محال سيأتي في المسألة الرابعة من مسائل شروط علة الأصل في باب القياس أن تعليل الثبوتي بالعدمي مختلف فيه ، وأن العدم المحض هو الذي لا يكون علة للحكم الثبوتي . ، وإن كان الرابع فذلك المقتضي الخارج : إما لازم للخبر المفروض ، وإما غير لازم ، فإن كان الأول فإن كان لازما لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقا ، وإن كان لازما لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين ، كان العدم مؤثرا في الأمر الثبوتي وهو محال ، وإن كان لازما لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل ، وإن لم يكن ذلك المقتضي [ ص: 82 ]الخارج لازما للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون الخبر الكاذب قبيحا . 

المقتضي القبح ما تضمنته مخالفة الخبر الواقع من مضار تفسد المجتمع ، وتصيب من كذب ، ومن خدع بخبره فصدقه ، وليس ذلك راجعا إلى الخبر من حيث هو لفظ ، ولا لعدم المخبر عنه وحده ; إذ كل منهما وحده لا يسمى كذبا ، وإنما يرجع إلى مخالفة الخبر الواقع المسمات كذبا ، وامتناع تعليل الثبوتي بالعدمي إنما هو في العدمي المحض ، وما فيه البحث ليس منه الثالثة : لو كان الخبر الكاذب قبيحا لذاته فالمقتضي له لا بد وأن يكون ثبوتيا ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي ، وهو إن كان صفة لمجموع حروف الخبر فهو محال ; لاستحالة اجتماعها في الوجود ، وإن كان صفة لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ; ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر الكاذب إنما هو الكذب ، وذلك محال . 

تقدم أن المقتضي أمر ثبوتي هو إفساد البيئة ، والضرر اللاحق بمن كذبه وبمن صدقه ، وهو صفة لازمة لمخالفة المخبر للواقع وناشئ عنها وليس صفة للحروف ولا لبعضها الرابعة : أنه لو كان قبح الكذب وصفا حقيقيا لما اختلف باختلاف الأوضاع ، وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج عن كونه كذبا وقبيحا بوضع الواضع له أمرا أو نهيا . 

الخامسة : لو كان الكذب قبيحا لذاته لما كان واجبا ولا حسنا عندما إذا استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله . 

السادسة : لو كان الظلم قبيحا لكونه ظلما لكان المعلول متقدما على علته ; لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على الظلم ، ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفا ثبوتيا ضرورة اتصاف العدم بنقيضه معللا بما العدم جزء منه ، وذلك لأن مفهوم الظلم أنه إضرار غير مستحق ، ولا استحقاق عدم ، وهو ممتنع . 

السابعة : أن أفعال العبد غير مختارة له ، وما يكون كذلك لا يكون حسنا ولا قبيحا لذاته إجماعا ، وبيان ( غير مختار ) أن فعله إن كان لازما له لا يسعه تركه ، فهو مضطر إليه لا مختار له وإن جاز تركه ، فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم ، وهو تسلسل ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري . 

[ 
ص: 83 ] وهذه الحجج ضعيفة 

أما الأولى : فلأنه أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن التزام إنسان الكذب في ساعة أخرى على تقدير بقائه قبيح واستمراره على ذلك ووفاؤه بما التزمه كلاهما قبيح ، فكان نقضه صيانة نفسه عن الكذب وحرصه على الصدق في جميع أخباره يعد حسنا مستلزما التخلص من القبيح لا للقبيح ، وبذلك يتم الجواب ، ويكون قوله : ولا يلزم من ملازمة القبح له قبحه . وما بعده غير محتاج إليه في الجواب على ما فيه من المؤاخذة ، ولا يلزم من ملازمة القبيح له قبحه وإن كان قبيحا من جهة استلزامه للقبيح ، فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح ، كما هو مذهب الجبائية . وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما ذكروه وقبح كذبه لكونه كذبا . 

وأما الثانية : فلأنه لا امتناع من القول بقبح الخبر مشروطا بعدم زيد في الدار ، والشرط غير مؤثر . 

وأما الثالثة : فلما يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذبا وهو محال . 

وأما الرابعة : فلأنه لا مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطا بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه ، مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطا في كونه كذبا . 

وأما الخامسة : فلأن الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة الخبر من غير قصد له ، أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير ، وإذا لم يكن متعينا له كان قبيحا ، وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص النبي لا نفس الكذب ، واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا يحرم شرعا لترجح المانع عليه . 

وأما السادسة : فلأنه أمكن منع تقدم قبح الظلم عليه ضرورة كونه صفة له ، بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من الظلم بكونه قبيحا شرعا وعرفا ، وأمكن منع تعليل القبح بالعدم . وعدم الاستحقاق وإن كان لازما للظلم فلا [ ص: 84 ] يلزم أن يكون داخلا في مفهومه ، فأمكن أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي ، والعدم شرطه . 

وأما السابعة : فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطرا إلى أفعاله غير مختار فيها لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله ، وهو محال ، ويلزم أيضا منها امتناع الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال ، والجواب يكون مشتركا . 

وأيضا هو مبني على أن العبد مجبور على ما يصدر عنه من الأفعال ، وهو باطل . والمعتمد في ذلك أن يقال : لو كان فعل من الأفعال حسنا أو قبيحا لذاته فالمفهوم من كونه قبيحا وحسنا ليس هو نفس ذات الفعل ، وإلا كان من علم حقيقة الفعل عالما بحسنه وقبحه ، وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحسنه وقبحه على النظر ، كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع ، وإن كان مفهومه زائدا على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية ; لأن نقيضه وهو لا حسن ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدميا ، ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح وجوديا وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ، ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو محال ; وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائما بالجوهر أو بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر ، قطعا للتسلسل الممتنع . وقيام العرض بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر ، تبعا له فيه . وقيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به ، وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ، ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر ، وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطا بقيام العرض الآخر به . 

فإن قيل : ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكنا ومعلوما ومقدورا ومذكورا ، وهو محال . ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله . 

وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام : 

أما الاستدلال فمن وجهين : 

[ 
ص: 85 ] الأول : اتفاق العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر ، وكذلك حسن الإيمان وقبح الكفران وغير ذلك ، مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك ، فكان ذاتيا والعلم به ضروري . 

الثاني : إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من الأحوال ، فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه . 

وكذلك نعلم أن من رأى شخصا مشرفا على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه ، وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي ، بل ربما كان يتضرر بالتعب والتعني ، وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته . 

وأما من جهة الإلزام : فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح ; لما فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ، ولما كان فعل الله حسنا قبل ورود السمع ، ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ، ولجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب ، ولامتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع ، ولكان الوجوب أيضا متوقفا ، ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته ، فللمدعو أن يقول : لا أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر . ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع في معجزتك وهو دور . 

والجواب عن الأول : أن ما ذكروه فأمور تقديرية ، فمفهوم نقائضها سلب التقدير ، والأمور المقدرة ليست من الصفات العرضية ، فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض . 

لا نسلم أنها من الصفات التقديرية ، فإن العلم والذكر صفات ثبوتية كما لا يخفى ، كما أن الحسن والقبح من الصفات الثبوتية ولا فرق . فإن قيل مثله في الحسن والقبح ، فقد خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب ، وعن المعارضة الأولى بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه ، فإن من العقلاء من لا يعتقد ذلك ، كبعض الملاحدة ولكن لا يعتد بخلافهم لانحرافهم وخلافهم فيما ذكر ، وقد علم حسنه وقبحه ضرورة .، ونحن أيضا [ ص: 86 ] لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض إيلام البهائم إن صدر من المخلوق من غير جرم أو غرض ، سليم ، فإن كان من الله ، فلا بد له من حكمة ، وإن لم نطلع عليها لقيام الدليل على عدله وحكمته . ، وهو من صور النزاع ، وإن كان ذلك متفقا عليه بين العقلاء فلا يلزم أن يكون العلم به ضروريا ، وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة إنما خالف فيه من ذكر من الملاحدة . ، وإن كان ذلك معلوما ضرورة فلا يلزم من الصواب : منه أن يكون ذاتيا إلا أن يكون مجردا عن أمر خارج القصد إثبات أن الفعل منشأ مصلحة كان بها حسنا ، أو منشأ مفسدة كان بها قبيحا ، سواء أكان ذلك لذاته أو لملابساته . ، وهو غير مسلم على ما يأتي . 

وعن المعارضة الثانية : أنه لا يخلو إما أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه ، أو لا يقال به . والأول يلزمه إبطال الاستدلال ، والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر . 

وعلى هذا إن كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل ، وإن لم يكن فالميل إلى الإنقاذ لا يكون مسلما ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا يلزم مثله في حق الغائب إلا بطرق قياسه على الشاهد ، وهو متعذر لما بيناه في علم الكلام . 

ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد لعبيده من الفواحش ، مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة إلى الله تعالى . 

فإن قيل : إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على منع الخلق من المعاصي ; وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون وقوعها معلوما للرب ، وإلا كان جاهلا بعواقب الأمور وهو محال ، ومنع الرب تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدورا كما ذهب إليه النظام . 

قلنا : فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد ، وأولى أن لا يكون السيد قيدا على المنع ، ومع ذلك فالفرق واقع . 

[ 
ص: 87 ] والجواب عن الإلزام الأول : أن مفهوم الحسن والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته ، وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله متحقق قبل ورود الشرع ، لا بالمعنى الذاتي . 

صوابه : الثاني ، وهو تفسير الحسن بما أمر الله بالثناء على فاعله ، والقبيح بما أمر الله بذم فاعله . وعن الثاني : أن فعل الله قبل ورود الشرع حسن ، بمعنى أن له فعله . 

وعن الثالث : أنه لا معنى للطاعة عندنا إلا ما ورد الأمر به ، ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه ، وعلى هذا فلا يمتنع ورود الأمر بما كان منهيا والنهي بما كان مأمورا . 

وعن الرابع : أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى القبح الذاتي وليس كذلك ، وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضا . 

وعن السادس ما سيأتي في المسألة بعدها ، وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع وجوب شكر المنعم عقلا ، وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع ; إذ هما مبنيان على ذلك . غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهارا لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات . 

نوف الراضي