الاثنين، 15 ديسمبر 2014

أصول فقه

تعريفه وموضوعه،
ومصادر استمداده
وتاريخ نشأته وتدوينه،
والغرض أو الفائدة من دراسته، وبيان مدارس الأصوليين والمؤلفين المتقدمين فيه،
ومدى تطور أسلوب أو طريقة التأليف فيه لدى المتأخرين.





_______________________________________________________________



1 – تعريف أصول الفقه وموضوعه:
للعلماء تعريفان لعلم أصول الفقه، فقال علماء الأصول من الشافعية: هو معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد[1]. والمقصود بمعرفة الأدلة: أن يعرف العالم أن القرآن والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها، وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يصرفه عن ذلك قرينة، وأن العام يدل على جميع أفراده ما لم يخصص، ونحو ذلك، والمعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمال لا التفصيل، ككون الإجماع حجة قطعية يقينية، والقياس حجة ظنية غالبة الظن الذي يكفي في مجال العمل.
ومعرفة كيفية الاستفادة من تلك الأدلة يراد بها استفادة الفقه العملي من دلائله، أي استنباط الأحكام الشرعية منها، وذلك يتطلب معرفة شرائط الاستدلال، كتقدم النص على الظاهر والمتواتر على الآحاد ونحوه.
ومعرفة حال المستفيد، أي طالب حكم الله تعالى، وهو المجتهد والمقلِّد، ففي هذا العلم نتعرف على شروط الاجتهاد وشروط التقليد، لمعرفة ضوابط المجتهد الذي يقبل قوله حين استنباطه الأحكام الشرعية من الأدلة، والاستنباط فن دقيق جداً يتطلب أهلية عالية وكفاءة متميزة في مصادر التشريع ومقاصده واللغة العربية وقواعدها، لأن دلالة الأدلة ظنية غالباً، ومعرفة الظن ومدلوله يحتاج إلى الاجتهاد. ثم يأتي دور المقلِّد المجتهد، فهو الذي يستفيد الأحكام من طريق المجتهد؛ إذ لا يحسن استنباط الحكم لعدم تخصصه، فيحتاج إلى من يرشده إلى الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم لمعرفة حكم الشرع في مسألة من المسائل.
يتبين من هذا التعريف أن أصول الفقه معناه معرفة دلائل الفقه معرفة إجمالية مبدئية، وكيفية استنباط الحكم الشرعي منها، وأحوال المجتهد والمقلد، وبإيجاز يكون معنى أصول الفقه: أدلة الفقه وجوباً وحرمة وغيرها.
والفقه كما عرفه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية[2]، وهي طوائف الأحكام من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة أو تخيير التي تغص بها كتب الفقهاء في الطهارات والعبادات والمعاملات والعقود والعقوبات الشرعية والجهاد وأحكام الشخص والأسرة والوصية والوقف والميراث. والفقيه يُعْنى يتطبيق القاعدة الأصولية على الجزئيات، فهو الذي يستنبط حكم وجوب الصلاة من قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} ويستنبط حكم تحريم الزنى من قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى..} وهكذا يبحث في أحكام العبادات والمعاملات والعقود والجنايات، والمعاهدات وأوضاع السلم والحرب وآثارهما، وغير ذلك من أفعال المكلفين التي هي موضوع الفقه من حيث ما يثبت لها من الأحكام الشرعية.
والحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع[3]، فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}[4] هو حكم الشرع الدال على فرضية الصلاة، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق}[5] هو حكم الشرع الدال على تحريم القتل، وقوله سبحانه: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم...}[6] هو حكم الشرع الدال على إباحة التجارة في الحج، وقوله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غَسَق الليل وقرآنَ الفجر، إن قرآنَ الفجر كان مشهوداً}[7] هو حكم الشرع الدال على جعل الدلوك أو الزوال علامة أو سبباً لوجوب صلاة الظهر.
وعرّف علماء الأصول من المالكية والحنفية والحنابلة علم أصول الفقه بأنه: هو القواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، أو هو العلم بهذه القواعد[8]. وهذا يعني أن الأصولي لا يبحث عن الأدلة الجزئية ولا عن دلالتها، كالاستدلال على إباحة البيع وحرمة الربا بقول الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرَّم الربا..}[9] والاستدلال على فرضية الصيام بقوله تعالى: {فمن شَهِد منكم الشهر فليصمه}[10] وإنما يبحث في الأدلة الكلية ودلالتها لوضع أي صياغة القواعد الكلية، مثل الكتاب والسنة أدلة يحتج بها، والنص مقدم على الظاهر، والمتواتر مقدم على الآحاد، والمطلق يحمل على المقيد، وكل ما أمر به الشارع فهو واجب، ونحو ذلك من المبادئ أو القواعد العامة.
والأدلة التفصيلية: هي الأدلة الجزئية وهي ما تتعلق بمسألة بخصوصها، ويدل كل واحد منها على حكم بعينه، كقول الله تعالى: {حُرّمت عليكم أمهاتكم وبناتُكم..}[11] الآية، وقوله سبحانه: {ولا تقربوا الزنى..}[12] الآية فالأول يدل على حكم بعينه هو حرمة الزواج بالأم أو البنت وغيرهما من المحارم، والثاني يدل على حرمة الزنى.
وأما الأدلة الكلية أو الإجمالية: فهي لا تتعلق بمسألة بخصوصها، ولا تدل على حكم بعينه، كمصادر الأحكام الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما يتعلق بها، مثل: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهذه كما تقدم محل بحث الأصولي، وأما الأدلة التفصيلية فهي محل بحث الفقيه.
وموضوع أصول الفقه عند الحنفية هو الأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، وهي الأحكام التكليفية من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة[13]. ويرى بعض الحنفية أن موضوع الأصول هو الأدلة، لأنها التي تثبت بها الأحكام، والأحكام ثمرة الأدلة[14].
ويرى جمهور الأصوليين أن موضوع أصول الفقه: الأدلة الشرعية من حيث بيان أقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها على وجه كلي[15].
وهذا هو الراجح، فموضوع علم الأصول: هو الأدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت بها من الأحكام الكلية، والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة. فيكون بحث كل من الأدلة والأحكام في ميدان الأصول أمراً أصيلاً وضرورياً واختصاصياً، لأن بحث أحدهما هو الأصل والآخر تابع له. والأمثلة على موضوع الأصول: قولهم: الأمر مثل {وأقيموا الصلاة} للإيجاب ما لم يصرف إلى الندب أو الإباحة بقرينة، والنهي مثل {ولا تقتلوا النفس} للتحريم ما لم يصرف إلى الكراهة بقرينة، والعام كلفظ المؤمنين ينتظم جميع أفراده قطعاً، والمطلق كلفظ ((رقبة)) يدل على الفرد الشائع من دون قيد يقيده بشيء كالإيمان وغيره، وهذه كلها قواعد على عكس القواعد الجزئية التي يبحثها الفقيه، كما تقدم بيانه.
وعلى أي حال، فإن كتب الأصوليين تتناول الحكم الشرعي ومباحثه المتعلقة به من الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه؛ والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها في الظاهر من حيث حجيتها ومراتب الاستدلال بها وشروط العمل بها، وطرق استنباط الأحكام من الأدلة وهي القواعد اللغوية أو قواعد تفسير النصوص، والاجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد ضوابطهما وشروطهما، ومجالهما وحكمهما وجوباً وندباً وتحريماً وكراهة وإباحة، وغير ذلك.
والأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. والأدلة المختلف فيها كثيرة أشهرها سبعة هي الاستصلاح أو المصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، والاستصحاب.
أما موضوع الفقه فهو كما تقدم أفعال المكلفين من حيث ثبوت الأحكام عن طريق العلم بالأحكام الشرعية العملية، والعلم بالأدلة التفصيلية.


2 – مصادر استمداد أصول الفقه وتاريخ نشأته وتدوينه:

استمد العلماء أصول الفقه من حقائق الأحكام الشرعية وتصوراتها لا من جزئياتها. ومن علم الكلام باعتبار أن الإلزام بالقرآن والسنة ناشئ ممن ألزم العمل بها وهو الله تعالى، وهو مصدر التشريع، ومنزل الوحي على الرسل لتبليغ الأحكام والشرائع. وتأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وبحث هذه العقائد في علم الكلام.
كذلك استمدوا كثيراً من قواعد الاستنباط من اللغة العربية التي جاء بها القرآن والسنة مصدرا التشريع الأصليان، فباللغة نسترشد مقاصد الشريعة، وبها يتمكن المجتهد من معرفة الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والعموم والخصوص، والاشتراك، والإطلاق والتقييد، والمنطوق والمفهوم، وهذه كلها من مباحث اللغة.
وقد نشأ علم أصول الفقه إبان ظهور الحركة الاجتهادية في عهد الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة الذين كانوا يستفتون في المسائل المستجدة، فيبحث المجتهد منهم عن حكمها الشرعي في نصوص القرآن الكريم وظواهره، ثم في منطوق الحديث النبوي ومفهومه وإيحاءاته، ثم يلجأ إلى القياس أو الاجتهاد بالرأي المتفق مع روح التشريع ومقاصده وإيماءاته، وذلك عملاً بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}[16] وبما دلت عليه السنة النبوية بآثار بلغت حد التواتر على مشروعية القياس، منها حديث معاذ الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً ومعلماً، والمتضمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله: ((ماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟)) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم يكن في سنة رسول الله؟)) قال: أجتهد رأيي لا آلو – أي لا أقصر – فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ، وقال: ((الحمدلله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله))[17] فهذا يدل على إقرار الرسول العمل بالرأي الصحيح المستند على النصوص وروح التشريع، والقياس نوع من الرأي.
واستمر العمل بهذا المنهج في عصر التابعين، فقدموا القرآن أولاً، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الرأي، لكن بعضهم كان يميل إلى العمل بالقياس الضيق بإلحاق الأمور غير المنصوص على حكمها بالمنصوص عليها، وبعضهم مال إلى العمل بالمصلحة المتفقة مع مقاصد التشريع إن لم يكن في المسألة نص على حكمها. وكان التابعون يأخذون بآراء الصحابة، ويقدمونها على العمل برأيهم.
ثم تبلور علم الأصول في عهد أئمة المذاهب، وبرزت تسميات المصادر المختلف فيها في الظاهر، مع اتفاقهم على مضمونها الصحيح في الواقع، مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي وشرع من قبلنا وسد الذرائع وعمل أهل المدينة ونحو ذلك. وظهرت فيهم نزعتان أو مدرستان: مدرسة أهل الحديث في الحجاز، ومدرسة أهل الرأي في العراق، ومع اتفاق أهل المدرستين على العمل بكل من الحديث الصحيح والرأي، إلا أنه كان يغلب على اجتهاد المدرسة الأولى الأخذ بالحديث الذي ثبت عندهم، والوقوف عنده دون أخذ بالرأي المنسجم مع قواعد الشريعة العامة ومبادئها الكلية، ويغلب على اجتهاد المدرسة الثانية العمل بالرأي عند عدم وجود نص قرآني أو نبوي صحيح، علماً بأن بيئة العراق التي لم يتوافر لها الثقات الكُثر من الرواة كانت سبباً واضحاً في هذا الاتجاه، كما أدى ذلك إلى خصوبة فقه أهل الرأي بسبب تقدم المدنية، إزدهار الحضارة، واستقرار الخلافة الإسلامية العباسية في بغداد وتوابعها.


وقد بدأ تدوين علم أصول الفقه بنحو شامل متكامل على يد الإمام الشافعي محمد بن إدريس المتوفي سنة 204هـ في كتابه ((الرسالة)) بناء على طلب الإمام عبدالرحمن بن المهْدي الذي أعجب بالرسالة إعجاباً شديداً، وكان بعدئذ يكثر من الدعاء له. وقد بحث فيها الشافعي مصادر التشريع، فأوضح أنواع البيان في القرآن، وأبان حجية السنة ومنزلتها في القرآن حتى لقب بأنه ((ناصر السنة وإمام الحديث)) وتحدث عن الناسخ والمنسوخ، علل الأحاديث وأثبت حجية خبر الواحد، ثم أفاض الكلام عن الإجماع والقياس والاستحسان وما يجوز الإختلاف فيه وما لا يجوز، فضبط أصول الخلاف، ووضع قواعد الاستنباط وأنار الطريق لمن بعده من العلماء لتأصيل مباحث هذا العلم وقواعده ومناهجه، وتبيان طرق الاجتهاد والاستنباط، وكان بهذا العمل الرائد الأول في تحديد المفاهيم الأصولية وضبطها وإبرازها للعلماء.

ولا يعني بدء التدوين لعلم الأصول على يد الشافعي أن قواعد هذا العلم من وضعه، وإنما كانت تلك القواعد مرعية في اجتهادات الصحابة والتابعين، وظهرت أيضاً في وقائع اجتهاداتهم قواعد أصولية فرعية، تعد أساساً في مبادئ الترجيح بين الأدلة المتعارضة، كما فعل الإمام علي رضي الله عنه بقياس حد السكران على المفتري القاذف، وكما أفتى ابن مسعود بأن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها بوضع الحمل، لأن سورة الطلاق وفيها عدة الحوامل نزلت بعد سورة البقرة وفيها عدة الوفاة، والمتأخر من النصوص ينسخ المتقدم أو يخصصه، وكتقديم المتواتر على الآحاد، والخاص على العام، والتحريم على الإباحة، وتخصيص العام بالخاص، وحمل المطلق على المقيد، مثل آية {حُرِّمت عليكم الميتة والدم...}[18] وآية {إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً..}[19] فاللفظ المطلق في الآية الأولى ((الدم)) محمول على المقيد في الآية الثانية، ويكون الدم المحرم هو المسفوح.
كذلك كانت لأئمة المذاهب قبل الشافعي كأبي حنيفة ومالك رحمهما الله قواعد وأصول يعتمدونها في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وما تزال هذه الأصول والقواعد منقولة عنهم متميزة فيهم، تميز كل مذهب عن غيره، وآثارها واضحة في الاجتهادات المنقولة عن أولئك الأئمة والإعلام، والتي أوضحها تلامذتهم من بعدهم في مؤلفات خاصة.
ثم تتابع العلماء بعد الإمام الشافعي في تدوين وتوضيح علم أصول الفقه، وفي طليعتهم الإمام أحمد رحمه الله الذي ألف كتاب ((طاعة الرسول)) وكتاب ((الناسخ والمنسوخ)) وكتاب ((العلل)). وكتب علماء الحنيفة وعلماء الكلام في هذا العلم، لتأصيل مناهج وقواعد استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.


3 – الغاية من دراسة علم الأصول وفائدته:

يتميز علم أصول الفقه بأنه نظريات كبرى ومناهج استنباط أصيلة واضحة، فهو كما أنه يضبط أصول الاجتهاد وينير الطريق أمام المجتهدين، كذلك فهو يضبط للعالم والفقيه والمتفقه أصول الأحكام الشرعية، ويبين طرق استنباطها، ويوضح أسس الوصول إليها، والتعرف على الوسائل التي تمكِّن العالم المستنير بشرع الله ودينه من فهم مباني الأحكام وقواعد الشريعة، ومنهج التجديد والاجتهاد، والتوصل إلى تغطية الحاجة المتجددة عبر الزمان إلى أحكام الحوادث والوقائع الطارئة والمسائل المستجدة.
يتبين من هذا أن الفائدة الأساسية من علم الأصول إمداد المجتهدين بقواعد استنباط الأحكام الشرعية في دائرة الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة من النصوص التشريعية في القرآن والسنة بطريق مباشر أو غير مباشر.
ويتعرف أتباع المجتهدين والمقلدون بواسطة قواعد الأصول مدارك أولئك الأئمة في اجتهادهم، ويتبينون طرق استنباطهم، والتوصل بها إلى معرفة الأحكام الشرعية معرفة دقيقة مرتكزة على الفهم واطمئنان النفس، ويمكن التفريع عليها، والقياس وإلحاق النظائر ببعضها حين يريد العالم تقرير حكم لمسألة مشابهة أو طارئة ذات شبه كلي أو جزئي.
فيكون علم الأصول للمجتهد مفيداً بل ضرورياً لتحصيل القدرة على استنباط الأحكام من الأدلة، وللمقلد للوقوف على مدارك الأئمة ومستنداتهم في الأحكام التي استنبطوها، ومعرفة الأدلة التي اعتمدوها في بناء الحكم الشرعي للفروع الفقهية والمسائل العلمية المتنوعة.
كما أن علم الأصول يفيد العالم في التخريج على أقوال الفقهاء المتقدمين، وفي الترجيح بين آراء الأئمة، واصطفاء ما يكون منها الأنسب في كل عصر ومكان، وما يحقق المصلحة المنشودة، والحاجة المتغيرة.
والمقارنة بين المذاهب أو بينها وبين معطيات العلوم القانونية الوضعية أو العلوم الأخرى لا تحقق ثمرتها ولا تفيد من دون الاعتماد على علم الأصول الذي يرتكز على الأدلة النصية أو العقلية أو اللغوية قال الفخر الرازي في المحصول: أهم العلوم للمجتهد: علم أصول الفقه، وقال الغزالي في المستصفى: أصول الفقه مقصدها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين.
ثم إن فهم أسرار التشريع وحكمه ومقاصده يتوقف على تعليلات الأصوليين للأحكام، ولا ينشط المكلف عادة للقيام بالتكاليف والأوامر الدينية، أو لا ترتاح نفسه إلا بعد فهم تلك الأسرار، لذا قال علماء الأصول: فائدة أصول الفقه: معرفة أحكام الله تعالى، وهي سبب الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية.


والخلاصة: أن أصول الفقه ينفع المجتهد والمقلّد، أما المجتهد: فيتمكن بالاهتداء بالقواعد الأصولية من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ومصادرها المقررة شرعاً. وأما المقلد أو المفتي الذي لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد، فيستفيد من علم الأصول معرفة أدلة الحكم، ومصادر المذهب، وأسلوب فهمه وطرقه في استنباط الأحكام الشرعية، ويمكّنه من استخراج الحكم الشرعي في المسائل التي لم يسبق للمجتهد إبداء رأي فيها، بالتخريج على قواعده الأصولية في الاستنباط، وعلى أقواله في المسائل التي أصدر رأيه فيها، ويجعله أكثر قدرة على المقارنة بين الآراء المذهبية في المسألة الواحدة، والترجيح بينها بأقوم الطرق، وأصح الأدلة.

ونحن في عصرنا الحاضر حيث كثرت المشكلات، وتجددت المعاملات، وتنوعت أساليب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بأمسّ الحاجة إلى علم الأصول لبيان حكم المستجدات، والتفاعل مع التطورات، ومواكبة ركب الحضارة والتقدم.
كما أننا بالاستعانة بالقواعد الأصولية نفهم كل قانون أو تشريع مكتوب بالعربية، ونستطيع حسم الخلاف في قضايا متعارضة أو متشابهة في الظاهر ولكنها متباينة في الواقع؛ لأن قواعد الاستنباط ودلالات الألفاظ المقررة لدينا مستمدة من معين اللغة العربية، وتوحي بها المسلمات العقلية، وقواعد الفطرة، وتنمو بالتمرس بفهم أصول الشرائع.
قال ابن خلدون في مقدمتهم المشهورة: أعلم أن هذا الفن – يعني أصول الفقه – من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر إليها، لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم به.


4 – المدارس الأصولية وتطور البحث الأصولي:

صنف علماء الأصول بعد عهد أئمة المذاهب كتباً ممتازة في أصول الفقه وفي طريقة بحثه على طريقتين أو باتجاهين لمدرستين في التأليف وهما مدرسة المتكلمين أو الشافعية، ومدرسة الفقهاء أو الحنفية. ومحور الخلاف بين الطريقتين أو المدرستين هو كيفية تقرير أو إبداع النظرية أو القاعدة، هل تكون سابقة على الفروع والتطبيقات أو أن الفروع والمسائل هي الأصل، وأما النظرية فهي التابع؟
ولا شك بأن تصور أرضية النظرية وهي إدراك حقائق بعض الأشياء أو المسائل أمر سابق وضروري قبل وجود النظرية، لكن ليس ذلك بنحو شامل أو كلي، فإن ولادة النظرية في أذهان العباقرة أو الفلاسفة لا تكون إلا بعد تأملات وملاحظات في جوانب الحياة، لا يدركها غيرهم، ثم يأتي الإبداع وصياغة النظرية، ليستفاد منها في التطبيق الكلي أو الشامل، فتكون النظرية بعد التوصل إليها بمثابة القاعدة أو المنارة التي يُهتدى بها في تحقيق مضمونها وتطبيق مفهومها، وهذا يدل على أن النظرية تسبق في النشوء والظهور عادة قضية التفريع والتطبيق.
فما الذي سار عليه المصنفون في التأليف في ميدان علم الأصول؟


أولاً – مدرسة المتكلمين أو طريقة الشافعية:

قرر أصحاب هذه المدرسة قواعد الأصول المأخوذة من الأدلة النصية النقلية واللغوية والكلامية والعقلية، وحققوها من غير نظر إلى الفروع الفقهية؛ لأن الأصول أسمى وأسبق من الفروع، وهذا اتجاه منطقي، ومنهج أسلم في تقرير القواعد الأصولية المستفادة من الأدلة المجردة من غير تعصب لمذهب أو استنباط معين، ولتكون ميزاناً لضبط الاستنباط، ومعياراً لسلامة الاستدلال، وأساساً للاجتهاد الحر الطليق دون أن يكون للفروع الفقهية حاكمية، أو توجيه للنظر، أو تقييد لا خروج عنه، وحينئذ تكون الأصول هي الحاكمة على الفروع، وقد التزم أصحاب هذه المدرسة بهذا المنهج، فلم يتعرضوا للفروع الفقهية إلا على سبيل التمثيل والتوضيح.
وإمام هذه المدرسة هو الشافعي رحمه الله الذي وضع أصوله قبل فقهه، فسميت المدرسة باسمه، ونسبت إليه، كما سميت بطريقة المتكلمين؛ لأن أكثر علماء الكلام (علماء التوحيد) كتبوا فيها واعتمدوها أكثر المصنفين، لامتيازها بالمنهج العقلي المجرد، ومواكبتها لنظريات الكلاميين أي علماء التوحيد، دون تأثر بالتقليد، ولكن اعتماداً على نزاهة البحث وحرية التحقيق.
وقد كثر أنصار هذه المدرسة حتى شملت جميع مذاهب أهل السنة غير الحنفية وبعض المذاهب الأخرى.


خصائص هذه المدرسة:

إن خصائص هذه المدرسة إجمالاً ثلاث: الاعتماد على الاستدلال العقلي المجرد، وعدم التعصب لمذهب فقهي معين، والاقتصار على الفروع الفقهية لمجرد التوضيح والمثال. ولا شك بأن هذه الخصائص تستهوي الباحثين في كل عصر، وبخاصة في عصرنا الذي أعطى للعقل مداه الكبير، لذا كانت طريقة هذه المدرسة سبباً في إثراء علم الأصول، والتعمق في مدلولاته، وبلورة قضاياه ومبادئه، دون تأثر بالمسائل الفرعية، قال إمام الحرمين أبو محمد الجويني: ((على أنَّا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه، فالفرع يصحح على الأصل، لا على الفرع)).


أهم كتب هذه المدرسة ومنهاجها:

قد ألفت كتب أصولية كثيرة على هذه الطريقة التي يرجع الفضل في إبرازها للقاضي أبي بكر الباقلاني من خلال آرائه المنقولة في الكتب، وإن لم تصلنا مؤلفاته. ومن أشهر كتب هذه المدرسة أو الطريقة: كتاب ((العمدة)) للقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي (415هـ) و((المعتمد)) لأبي الحسين البصري المعتزلي (463هـ) و((البرهان)) لإمام الحرمين عبدالله الجويني النيسابوري (478هـ) و((المستصفى)) لأبي حامد الغزالي (505هـ) و((المحصول)) لفخر الدين محمد الرازي (606هـ) و((الأحكام في أصول الأحكام)) لسيف الدين الآمدي (631هـ).
ثم اختصر كتاب المحصول تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي (656هـ) في كتاب ((الحاصل)) وسراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي (682هـ) في كتاب ((التحصيل)).
واختصر القاضي عبدالله بن عمر البيضاوي (675هـ) كتاب الحاصل في متنه: ((منهاج الوصول إلى علم الأصول)) الذي شرحه كثيرون مثل عبدالرحيم بن حسن الإسنوي (756هـ).
ومنهاج هذه الكتب على النحو التالي: التعريفات المشتملة على المقدمات المنطقية واللغوية، ثم الأحكام الشرعية، ثم الأدلة ودلالات الألفاظ، ثم الاجتهاد والتقليد. وقد يكون هناك طريقة أخرى في بيان الأصول مثل كتاب ((تخريج الفروع على الأصول)) لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي (656هـ) و((تنقيح الفصول في علم الأصول)) لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (684هـ) والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول لجمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي الشافعي (772هـ).


ثانياً – مدرسة الفقهاء أو طريقة الحنفية:

سارت هذه المدرسة على منهج مغاير لمنهج المتكلمين، فإنهم لم يضعوا الأصول من غير تأثر بالفروع، وإنما اتجهوا إلى استنباط القواعد الأصولية في ضوء الفروع الفقهية التي قررها أئمتهم، وجعلوا القاعدة الأصولية منسجمة مع الفرع الفقهي. وغالب أصحاب هذه الطريقة من متأخري الحنفية الذي اشتهروا بالتعصب لمذهبهم، للدفاع عنه، والشهادة بسلامة فروعه، وإثبات أن له أصولاً مسبقة[20] حينما لم يجدوا لأئمتهم قواعد أصولية مدونة كما فعل الإمام الشافعي، وإنما وجدوا فروعاً فقهية كثيرة يتخللها بعض القواعد المنثورة. وصارت هذه القواعد أو الأصول أداة للدفاع عن مذهبهم في مقام الجدل والمناظرة بينهم وبين أتباع المذاهب الفقهية الأخرى، ثم أصبحت أساساً لهم في استنباط الأحكام الشرعية للوقائع والمسائل الجديدة.
وقد سميت هذه الطريقة بطريقة الحنفية ونسبت إليهم، كما سميت بطريقة الفقهاء لشدة تعلقها بالفرع الفقهي وإخضاع الأصل أو القاعدة له. قال ابن خلدون في مقدمته: إن كتابه الفقهاء – الحنفية – في أصول الفقه أمسُّ بالفقه، وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة فيها.
وعلى أي حال، فإن كلتا الطريقتين تؤديان الغاية المرجوة وهي استنباط الحكم الشرعي للفروع الفقهية التي تندرج تحت القاعدة، سواء قررت أولاً قبل الحادثة أو ثانياً بعدها، أو بالعكس، كما أن النتيجة واحدة وهي تحقيق النماء وخصوبة الفقه الإسلامي الذي لا يترك واقعة من أفعال الناس إلا ويكون لها فيه حكم ما.
ويحسن إيراد هذا المثال لتوضيح طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية: وهو جزء الوقت الذي يكون سبباً للإيجاب، أي علامة على توجه الخطاب الشرعي من الله تعالى للمكلف، فقال جمهور الأصوليين: إن سبب الوجوب هو أول جزء من أجزاء الوقت المحدد للصلاة شرعاً، لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}[21] فالدلوك الذي هو ميل الشمس عن وسط السماء سبب لوجوب الظهر، أي أن القاعدة تؤخذ من الدليل الشرعي دون نظر إلى الفروع. وقال الحنفية: إن سبب وجوب الصلاة هو الجزء الذي يتصل به الأداء (أي فعل الصلاة) من الوقت، فإذا ضاق الوقت تعين هذا الجزء الأخير للسببية، وإذا خرج الوقت كله دون أداء الصلاة أضيف السبب إلى الوقت كله، وهذا يدل على أن القاعدة تؤخذ من الفروع الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب: أبي حنيفة وصاحبيه.


خصائص هذه المدرسة:

تمتاز هذه المدرسة بالمميزات الثلاث التالية: وهي أن منهجها عملي قائم على ربط الأصول بالفروع تمهيداً لاستخلاص الأصول من الفروع فتميزت بالتطبيق العملي، وأنها قاربت بين الأصول والفقه ومزجت بينهما بأسلوب مفيد، وأنها خدمت الفقه بنحو جلي في مجال التأليف في باب الخلاف وتخريج الفروع على الأصول، وكتابة قواعد الفقه الكلية، وسبق التأليف في القواعد.
أهم كتب هذه المدرسة ومنهاجها:
ظهرت كتب أصولية رائعة على هذه الطريقة التي يعد الرائد لها الإمام أبو منصور الماتريدي (330هـ) في كتابه ((مآخذ الشرائع)) وأهمها: أصول الجصاص لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (370هـ) و((تقويم الأدلة)) لأبي زيد الدبوسي (430هـ) و((تأسيس النظر)) للدبوسي المذكور و((تمهيد الفصول في الأصول ((لشمس الأئمة أبي سهل محمد بن أحمد السرخسي (490هـ) وأصول فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي (483هـ) ويسمى كتابه ((أصول البزدوي)) وقد شرحه عبدالعزيز البخاري (730هـ) شرحاً وافياً نفيساً يسمى ((كشف الأسرار على أصول البزدوي)) وكتاب ((المنار)) لعبدالله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي (710هـ) وله شروح عديدة أهمها شرح عز الدين عبداللطيف بن عبدالعزيز بن الملك.
ومنهاج هذه الكتب على النحو التالي: تعريف علم الأصول، ثم ذكر الأدلة إجمالاً، ثم بيان المصدر الأول – القرآن، وفي بحثه تذكر القواعد اللغوية وطرق الاستنباط، ثم السنة ومباحثها، ثم بقية الأدلة: شرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والاستحسان، ثم أحوال المجتهدين، ثم التعارض والترجيح، وأخيراً مباحث الحكم (الحاكم، والحكم الشرعي، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه والأهلية) وهذا واضح في أصول السرخسي، أما البزدوي فإنه بدأ بالأمر والنهي وفيهما أورد المباحث اللغوية، ثم تحدث عن الكتاب والسنة والإجماع، والبيان بما فيه النسخ، ثم بقية المصادر، ثم الترجيح، ثم مباحث الحكم.


ثالثاً – طريقة المتأخرين في الجمع بين المدرستين:

ظهرت في القرن السابع الهجري في عصر التقليد مدرسة جديدة في التأليف في أصول الفقه جمعت بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، إهتم أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية. وكان منهم بعض الحنفية وبعض الشافعية، وسميت هذه الطريقة طريقة المتأخرين التي كان ظهورها بسبب التعصب المذهبي، ولكنها أفادت كثيراً في مجال المقارنة ومناقشة الآراء الأصولية لكلتا المدرستين السابقتين، والترجيح بينها في الجزئيات الفقهية، لكن الكتابة فيها إتسمت بالإيجاز والتلخيص في كتابة المتون في الأصول والفقه على حد سواء[22].
أهم كتب هذه الطريقة:
لقد ألفت كتب على هذه الطريقة الجامعة بين طريقتي المدرستين السابقتين، من أهمها كتاب ((بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام، لمظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي الحنفي (694هـ) جمع فيه بين كتاب البزدوي الحنفي، والآمدي الشافعي، وكتاب ((تنقيح الأصول)) وشرحه كتاب ((التوضيح)) لصدر الشريعة عبيدالله بن مسعود البخاري الحنفي (747هـ) جمع فيه ثلاثة كتب هي أصول البزدوي، والمحصول للرازي الشافعي، ومنتهى القول والأمل أو المختصر لابن الحاجب المالكي، وقد شرحه بكتاب التلويح سعد الدين التفتازاني الشافعي (793هـ).
ومن هذه الكتب كتاب ((جمع الجوامع)) لتاج الدين عبدالوهاب بن علي السُّبكي الشافعي (771هـ) شرحه الجلال المحلي، وكتب الشيخ حسن العطار عليه حاشية تسمى ((حاشية العطار على جمع الجوامع)). وقد استمد ابن السبكي كتابه مما يقرب من مائة مصنف، كما ذكر، فسماه جمع الجوامع.
ومنها كتاب ((التحرير)) لكمال الدين بن الهمام الحنفي (861هـ) وله شروح كثيرة منها شرح محمد بن محمد بن أمير حاج (879هـ) يسمى ((التقرير والتحبير)) وشرح محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحنفي. ومنها كتاب ((مسلم الثبوت)) لمحب الله بن عبدالشكور الهندي (1119هـ) وهو من أدق الكتب، وقد شرحه عبدالعلي محمد بن نظام الدين الأنصاري شرحاً نفيساً سماه (فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت).
ومن هذه الكتب الأصولية ذات النمط الفريد والكثير الفائدة كتاب ((الموافقات)) لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (780هـ). ثم توالت كتب مفيدة، من أحسنها كتاب ((إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول)) للقاضي محمد بن علي بن عبدالله الشوكاني (1250هـ) الذي أجاد في بيان الأصول وآراء الأصوليين.
ثم ظهرت مؤلفات كثيرة حديثة في رحاب الجامعات، مثل كتاب ((أصول الفقه)) للشيخ محمد الخضري (1354هـ) وكتاب ((تسهيل الوصول إلى علم الأصول)) للشيخ عبدالرحمن المحلاوي، وكتاب ((علم أصول الفقه)) للشيخ عبدالوهاب خلاّف (1376هـ – 1955م) و((أصول الفقه)) للشيخ محمد أبو زهرة (1395 – 1974م) و((أصول الفقه الإسلامي)) للشيخ زكي الدين شعبان (1408هـ – 1987م) و((أصول الفقه الإسلامي)) في مجلدين للدكتور وهبة الزحيلي، وجميع هذه الكتب وأمثالها لدى المعاصرين يجمع بين طريقة الشافعية والحنفية، وهي الطريقة المفضلة علمياً، لذا كتب لها النجاح والاستمرار والانتشار.


وخلاصة البحث ما يلي:

1 - إن أصول الفقه: معناه أدلة الفقه وكيفية استنباط الحكم الشرعي منها وحال المجتهد المستنبط والمقلد غير القادر على الإجتهاد، سواء أكان عالماً غير مختص بفن الاجتهاد أم عامياً. أما الفقه فهو مجموعة الأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية وموضوع أصول الفقه الأحكام والأدلة وموضوع الفقه: أفعال المكلفين من طريق العلم بالأحكام الشرعية العملية، والعلم بالأدلة التفصيلية، أي الأدلة الجزئية، كالعلم بحل البيع وتحريم الربا، وفرضية الصلاة والزكاة وإباحة الزواج من آيات {وأحل الله البيع وحرًّم الربا}[23] {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[24] {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}[25]
2 - إن استمداد علم أصول الفقه من ثلاثة مصادر: علم الكلام (وعلم التوحيد) واللغة العربية، والأحكام الشرعية، وكان أول من دونه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. 
3 - الغاية من معرفة الأصول: التمكن من الاجتهاد، والتخريج على آراء المذاهب الإسلامية، وفهم أسرار التشريع ومقاصده، والمقارنة بين المذاهب، والترجيح بين آراء الأئمة، وبيان ضوابط التقليد والتلفيق. 
4 - للأصوليين طرق ثلاث في كتابة الأصول: طريقة المتكلمين أو طريقة الشافعية، وطريقة الحنفية أو الفقهاء، وطريقة الجمع بين الطريقتين المتقدمتين لدى العلماء المتأخرين. والطريقة الأولى تستمد قواعدها من الأدلة الشرعية مباشرة، والثانية من الفروع الفقهية التي هي ثمرة الأدلة، والثالثة توفيقية ومقارنة.
والحمدلله رب العالمين،،،
ــــــــــــــــــــــ
[1]  المنهاج للقاضي البيضاوي مع الإسنوي والبدخشي: 1/16. حاشية البناني على جمع الجوامع: 1/25.
[2]  حاشية البناني وشرح المحلب على جمع الجوامع: 1/32 وما بعدها، شرح الإسنوي: 1/24.
[3]  حاشية البناني: 1/35، التوضيح لصدر الشريعة والتلويح: 1/13 وما بعدها.
[4]  سورة البقرة – آية 43.
[5]  سورة الإسراء – آية 33.
[6]  سورة البقرة – آية 198.
[7]  سورة الإسراء – آية 78.
[8]  شرح العضد المختصر المنتهى لابن الحاجب: 1/18، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج: 1/26، 28، مرآة الأصول لمنلا خسرو: 1/39، المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران: ص58.
[9]  سورة البقرة – آية 275.
[10]  سورة البقرة – آية 185.
[11]  سورة النساء – آية 23.
[12]  سورة الإسراء – آية 32.
[13]  التوضيح لصدر الشريعة: 1/22.
[14]  التقرير والتحبير: 1/32.
[15]  الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/8 – 9.
[16]  سورة الحشر – آية 2.
[17]  رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي. حديث مرسل صحيح، لأن رجاله ثقات.
[18]  سورة المائدة – آية 5. 
[19]  سورة الأنعام – آية 145.
[20]  أصول الفقه للمرحوم الأستاذ محمد الخضري: ض6 ، 20.
[21]  سورة الإسراء – آية 78.
[22]  أصول الفقه للخضري: ص9.
[23]  سورة البقرة – آية 275.
[24]  سورة البقرة – آية 43.
[25]  سورة النساء – آية 3.



حنين السليم
5l3

الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

القران

بسم الله الرحمن الرحيم 

الدليل الأول: القرآن :
القرآن هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم  بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله ودستورا للناس يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل، محفوظا من أي تغيير أو تبديل، مصداق قول الله سبحانه فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
خواصه:
فمن خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله، وأن ألفاظه العربية هي التي أنزلها الله على قلب رسوله، والرسول ما كان إلا تالياً لها ومبلغاً إياها، ويتفرع عن هذا ما يأتي:
أ- ما ألهم الله به رسوله من المعاني ولم ينزل عليه ألفاظها بل عبر الرسول بألفاظ من عنده عمّا ألهم به لا يعد من القرآن ولا تثبت له أحكام القرآن، وإنما هو من أحاديث الرسول، وكذلك الأحاديث القدسية وهي الأحاديث التي قالها الرسول فيما يرويه عن ربه لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكام القرآن فلا تكون في مرتبته في الحجية، ولا تصح الصلاة بها، ولا يتعبد بتلاوتها.
ب- تفسير سورة أو آية بألفاظ عربية مرادفة لألفاظ القرآن دالة على ما دلّت عليه ألفاظه لا يعد قرآناً مهما كان مطابقاً للمفسر في دلالته لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله.
ج- ترجمة سورة أو آية بلغة أجنبية غير عربية لا تعد قرآناً مهما روعي من دقة الترجمة وتمام مطابقتها للمترجم في دلالته، لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله. نعم لو كان تفسير القرآن أو ترجمته يتم بواسطة من يوثق بدينه وعلمه وأمانته وحذقه يسوغ أن يعتبر هذا التفسير أو هذه الترجمة بياناً لما دل عليه القرآن ومرجعاً لما جاء به، ولكن لا يعتبر هو القرآن ولا تثبت له أحكامه، فلا يحتج بصيغة عبارته وعموم لفظه وإطلاقه لأن ألفاظه وعباراته ليست ألفاظ القرآن ولا عباراته، ولا تصح الصلاة به ولا يتعبد بتلاوته.
د-ومن خواصه أنه منقول بالتواتر أي بطريق النقل الذي يفيد العلم والقطع بصحة الرواية، ويتفرع عن هذا بعض القراءات التي تروى بغير طريق التواتر كما يقال: (وقرأ بعض الصحابة كذا) لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكامه.

و- انه معجز عجز الجن والانس عن الاتيان بمثله (قل لان اجتمعت الانس والجن على ان ياتو بمثل هذا القران لا ياتون بمثله)

.حجيته:
البرهان على أن القرآن حجة على الناس وأن أحكامه قانون واجب عليهم اتّباعه أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته.
أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله.
معنى الإعجاز وأركانه:
الإعجاز: معناه في اللغة: نسبة العجز إلى الغير وإثباته له، يقال أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء.. وأعجز القرآن الناس أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
ولا يتحقق الإعجاز أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة:
الأول: التحدي، أي طلب المباراة والمنازلة والمعارضة.
والثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المباراة والمنازلة والمعارضة.
والثالث: أن ينتفي المانع الذي يمنعه من هذه المباراة.
فإذا ادعى رياضي أنه بطل نوع من أنواع الرياضة وأنكر عليه دعواه رياضي آخر، فتحدى مدعي البطولة من أنكر عليه وطلب منه أن يباريه أو أن يأتي بمن يباريه، وهذا المنكر مع شدة حرصه على إبطال دعوى هذا المدعي، ومع أنه ليس به أي مرض ولا له أي عذر يمنعه عن مباراته وعن الإتيان بمن يباريه لم يتقدم لمباراته ولم يأت بمن يباريه، فإن هذا اعتراف منه بالعجز وتسليم بالدعوى.
والقرآن الكريم توافر فيه التحدي به، ووجد المقتضي لمن تحدوا به أن يعارضوه، وانتفى المانع لهم، ومع هذا لم يعارضوه ولم يأتوا بمثله.
أما التحدي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للناس إني رسول الله، وبرهاني على إني رسول الله، هذا القرآن الذي أتلوه عليكم لأنه أوحي إلى به من عند الله، فلما أنكروا عليه دعواه، قال لهم: إن كنتم في ريب من أنه من عند الله وتبادر إلى عقولكم أنه من صنع البشر فأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، وتحداهم وطلب منهم هذه المعارضة بلهجات واخزة وألفاظ قارعة وعبارات تهكمية تستفز العزيمة وتدعو إلى المباراة، وأقسم أنهم لا يأتون بمثله ولن يفعلوا، ولن يستجيبوا، ولن يأتوا بمثله.
قال تعالى في سورة القصص: {قُُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} [القصص: 50- 51] وقال تعالى في سورة الإسراء: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[الإسراء: 88] وقال سبحانه في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] وقال في سورة البقرة: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24، 23] وقال في سورة الطور:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34، 33].
وأما وجود المقتضى للمباراة والمعارضة عند من تحداهم فهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادّعى أنه رسول الله وجاءهم بدين يبطل دينهم، وما وجدوا عليه آباءهم وسفه عقولهم وسخر من أوثانهم، واحتج على دعواه بأن القرآن من عند الله، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فما كان أحوجهم وأشد حرصهم على أن يأتوا بمثله، كله أو بعضه ليبطلوا أنه من عند الله وليدحضوا حجة محمد على أنه رسول الله، وبهذا ينصرون آلهتهم ويدافعون عن دينهم ويجتنبون ويلات الحروب.
وأما انتفاء ما يمنعهم من معارضته، فلأن القرآن بلسان عربي، وألفاظه من أحرف العرب الهجائية، وعباراته على أسلوب العرب، وهم أهل البيان وفيهم ملوك الفصاحة، وقادة البلاغة، وميدان سباقهم مملوء بالشعراء والخطباء والفصحاء في مختلف فنون القول، هذا من الناحية اللفظية، وأما من الناحية المعنوية فقد نطقت أشعارهم وخطبهم وحكمهم ومناظرتهم بأنهم ناضجو العقول، ذوو بصر بالأمور وخبرة بالتجارب، وقد دعاهم القرآن في تحديه لهم أن يستعينوا بمن شاءوا ليستكملوا ما ينقصهم ويتموا عدتهم وفيهم الكهان وأهل الكتاب. وأما من الناحية الزمنية، فالقرآن لم ينزل جملة واحدة حتى يحتجوا بأن زمنهم لا يتسع للمعارضة بل مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، بين كل مجموعة وأخرى زمن فيه متسع للمعارضة والإتيان بمثلها لو كان في مقدورهم.
فلا ريب أن الله سبحانه بلسان رسوله في كثير من الآيات تحدى الناس أن يأتوا بمثل القرآن، وأنهم مع شدة حرصهم وتوافر دواعيهم إلى أن يأتوا بمثله، وانتفاء ما يمنعهم لم يأتوا بمثله، ولو جاءوا بمثله وعارضوه لنصروا آلهتهم، وأبطلوا حجة من سخر منهم وكفوا أنفسهم شر القتال والنضال والغزوات عدة سنين.
فالتجاؤهم إلى المحاربة بدل المعارضة، وائتمارهم على قتل الرسول بدل ائتمارهم على الإتيان بمثل قرآنه اعتراف منهم بعجزهم عن معارضته، وتسليم أن هذا القرآن فوق مستوى البشر، ودليل على أنه من عند الله.
وجوه إعجاز القرآن:
ولكن لماذا عجزوا؟ وما وجوه الإعجاز؟
اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة وإنما أعجزهم من نواح متعددة، لفظية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضاً على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات. وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية تجلّت نواح من نواحي إعجازه، وقام البرهان على أنه من عند الله.
وهذا ذكر بعض ما وصلت إليه العقول من نواحي الإعجاز:
أولها: بلاغته التي بهرت العرب:
تكوّن القرآن من ستة آلاف آية، وعبر عما قصد إلى التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتى، وطرق موضوعات متعددة اعتقادية وخلقية وتشريعية، وقرر نظريات كثيرة، كونية واجتماعية ووجدانية، ولا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها وبعض، فليس أسلوب هذه الآية بليغاً وأسلوب الأخرى غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحاً، وذاك اللفظ غير فصيح، ولا تجد عبارة أرقى مستوى في بلاغتها من عبارة، بل كل عبارة مطابقة لمقتضى الحال الذي وردت من اجله، وكل لفظ في موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه.
كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، أو حكماً يناقض حكماً، أو مبدأ يهدم مبدأ، أو غرضاً لا يتفق وآخر، فكما أنه لا اختلاف بين عباراته وألفاظه، لا اختلاف بين معانيه وأحكامه، ولا بين مبادئه ونظرياته، ولو كان صادراً من عند غير الله أفراداً أو جماعات ما سلم من اختلاف بعض عباراته وبعض، أو اختلاف بعض معانيه وبعض، لأن العقل الإنساني مهما نضج وكمل لا يمكنه أن يكون ستة آلاف آية في ثلاث وعشرين سنة لا تختلف آية منها عن أخرى في مستوى بلاغتها، ولا تعارض آية منها آية أخرى فيما اشتملت عليه. وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله في سورة النساء: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82].
وما يوجد من اختلاف في الأسلوب بين بعض الآيات وبعض، أو اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة فليس منشؤه اختلاف أسلوب الآيات في مستوى البلاغة وإنما منشؤه اختلاف موضوع الآيات، فإذا كان الموضوع تقنينا وتبيينا لعدّة المطلّقة أو نصيب الوارث من الإرث، أو مَصْرف الصدقات، أو غيرها من الأحكام فهذا لا مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان مجال فيه للأسلوب الخطابي المؤثر، والذي يطابقه هو الألفاظ الدقيقة المحدودة، وإذا كان الموضوع تسفيها لعبادة الأوثان أو بيانا لفيضان الطوفان أو استدلالا على قدرة الله، أو تذكيراً بنعمه على عباده، أو تخويفا بشدائد اليوم الآخر، فهذه فيها مجال للأسلوب الخطابي ليس من البلاغة، لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ولكل مقام مقال.
وما يوجد من تعارض ظاهري بين ما دلت عليه بعض الآيات وما دلت عليه أخرى فقد بين المفسرون أنه ليس تعارضا إلا فيما يظهر لغير المتأمل، وعند التأمل يتبين أنه لا تعارض، ومن أمثلة هذا قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]، مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ}[النساء: 78]، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16]، مع الآيات الدالة على أن الله لا يأمر بالسوء والفحشاء، فكل ما ظاهرة التعارض من آيات القرآن فهو بعد البحث متفق متسق لا اختلاف فيه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وثانيها: انطباق آياته على ما يكتشفه العلم من نظريات علمية:
القرآن أنزلها الله على رسول ليكون حجة له ودستوراً للناس، ليس من مقاصده الأصلية أن يقرر نظريات علمية في خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وحركات الكواكب وغيرها من الكائنات، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وتذكير الناس بآلائه ونعمه، ونحو هذا من الأغراض، جاء بآيات تفهم منها سنن كونية ونواميس طبيعية كشف العلم الحديث في كل عصر براهينها، ودل على أن الآيات التي لفتت إليها من عند الله لأن الناس ما كان لهم بها من علم، وما وصلوا إلى حقائقها وإنما كان استدلالهم بظواهرها، فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية وظهر أن آية في القرآن أشارت إلى هذه السنة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله في سورة فصلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53، 52].
ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة النمل في مقام الاستدلال على قدرته ولفت النظر إلى آثاره: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20، 19]، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الأنبياء: 14- 12].
وبعض الباحثين لا يرتضون الاتجاه إلى تفسير آيات القرآن بما يقرره العلم من نظريات ونواميس، وحجتهم أن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تتبدل، والنظريات العلمية قد تتغير وتتبدل، وقد يكشف البحث الجديد خطأ نظريات قديمة، ولكني لا أرى هذا الرأي لأن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم، وليس معنى هذا أن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ النظرية ظهر خطأ فهم النظرية على ذلك الوجه لا خطأ الآية نفسها، كما يفهم حكم من آية ويتبين خطأ فهمه بظهور دليل على هذا الخطأ.
وثالثها: إخباره بوقائع الأمم السابقة المجهولة والتي تحدث بالمستقبل :
أخبر القرآن عن وقوع حوادث في المستقبل لا علم لأحد من الناس بها، كقوله تعالى: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم: 1- 4] وقوله سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27].
وقص بالقرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم تدل على أخبارها، وهذا دليل على أنه من عند الله الذي لا تخفي عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، وإلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
ورابعها: فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره:
ليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وعباراته في مطابقتها لمقتضى الأحوال في أعلى مستوى بلاغي، ويتجلى هذا في تشبيهاته وأمثاله وحججه ومجادلاته وفي إثباته للعقائد الحقة وإفحامه للمبطلين وفي كل معنى عبر عنه وهدف رمي إليه، وحسبنا برهانا على هذا شهادة الخبراء من أعدائه واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه. والإمامان: الزمخشري في تفسيره الكشاف، وعبدالقاهر في كتابه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة تكفلا ببيان كثير من وجوه الفصاحة والبلاغة في آيات القرآن. وأما قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، فهذا يشعر به كل منصف ذي وجدان، وحسبنا برهانا على هذا أنه لا يمل سماعه ولا تبلي جدته، وقد قال الوليد بن المغيرة وهو ألد أعداء الرسول: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر) والحق ما شهدت به الأعداء.

خامسها: إشارته الى بعض الحقائق الكونيه التي أثبتها العلم الحديث. 



.أنواع أحكامه:
أنواع الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم ثلاثة:
الأول: أحكام اعتقادية: تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والثاني: أحكام خلقية: تتعلق بتهذيب النفس وتقويمها بالفضائل وأن يتخلى عنه من الرذائل.
والثالث: أحكام عملية، تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذا النوع الثالث هو فقه القرآن، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه.
والأحكام العلمية في القرآن تنتظم نوعين:
أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، وأحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات، وما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، وسواء أكانوا أفراداً أم أُمما أم جماعات.


بيان القواعد والمبادئ العامة التي تكون أساسا لتشريع أحكام القرآن كالشورى، العدل ، العقوبة ، حرمة مال الغير، نفع الأمة، الوفاء،الضرورات تبيح المحظورات حيث يتم تفصيلها وشرحها كالآتي :
1- أحكام الأحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وآياتها في القرآن نحو 70.
2- والأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة مداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق، وآياتها في القرآن نحو70.
3- والأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأُمّة، وآياتها في القرآن نحو 30.
4- وأحكام المرافعات: وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس، وآياتها في القرآن نحو 13.
5- والأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق وآياتها نحو 10.
6- والأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدول الإسلامية بغيرها من الدول في السلم وفي الحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وآياتها نحو 25.
7- والأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدول والأفراد، وآياتها نحو 10.
ومن استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث لان أكثر أحام هذا النوع تعبدي ولا مجال للعق فيه ولا يتطور بتطور البيئات، وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئي أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن من غير اصطدام بحكم جزئي فيه.

.دلالة آياته:
إما قطعية وإما ظنية.
نصوص القرآن جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن، هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول المعصوم إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل، لأن الرسول المعصوم كان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية بلغها أصحابه وتلاها عليهم وكتبها كتبة وحيه، وكتبها من كتب لنفسه من صحابته منهم عدد كثير وقرءوها في صلواتهم، وتعبدوا بتلاوتها في سائر أوقاتهم، محفوظة في صدور كثير من المسلمين، وقد جمع أبو بكر الصديق بواسطة زيد بن ثابت، وبعض الصحابة المعروفين بالحفظ والكتابة هذه المدونات وضم بعضها إلى بعض، مرتبة الترتيب الذي كان الرسول يتلوها به ويتلوها به أصحابه في حياتهم وصارت هذه المجموعة وما في صدور الحفاظ هي مرجع المسلمين في تلقي القرآن وروايته. وقام على حفظ هذه المجموعة أبو بكر في حياته، وخلفه في المحافظة عليها عمر، ثم تركها عمر عند بنته حفصة أم المؤمنين، وأخذها من حفصة عثمان في خلافته ونسخ منها بواسطة زيد بن ثابت نفسه، وعدد من كبار المهاجرين والأنصار عدة نسخ أرسلت إلى أمصار المسلمين.
فأبو بكر حفظ كل ما دونت فيه آية أو آيات من القرآن حتى لا يضيع منه شيء، وعثمان جمع المسلمين على مجموعة واحدة من هذا المدون ونشره بين المسلمين حتى لا يختلفوا في لفظ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفّاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون. وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وثمانين سنة يقرءون جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أُمّة عن أُمّة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه، إذ قال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، ونص ظني الدلالة على حكمه.
فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]، فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، ومثل قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فهذا قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل،، وكذا كل نصل دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاف محدد.
وأما النص الظني الدلالة: فهو ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228]، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر، ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. ومثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه نص مشترك أو لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة، لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره.
المراجع:
كتاب: علم أصول الفقه  للشيخ عبد الوهاب خلاف 

كتاب:الوجيز في اصول الفقه  للدكتور عبد الكريم زيدان 

فاطمة بري